
جمعة حراز يكتب:
التراب الذي تكلم… حين انتصرت الأخلاق على السلاح
في أحد مشاهد الحرب التي لا تُنسى، ومن عمق معتقلات “الدعامة”، روى ضباط من القوات المشتركة حادثة ستبقى محفورة في ذاكرة الوطن، لا لأن فيها بارودًا ودخانًا، بل لأنها لحظة نادرة تحدّث فيها التراب، وكشفت الحفرة عن جوهر الرجال.
طُلب من هؤلاء الضباط أن يحفروا حفرة عميقة. فامتثلوا للأمر. ثم جُلب أسرى من رموز النظام البائد – (فلول) العهد البائس – وأُلقوا في تلك الحفرة، وجاء الأمر الصادم:
“ادفنوهم أحياء.”
توقّف الضباط، رفضوا، تمسكوا بضميرٍ حيٍ لا يموت، وقالوا: “لا.”
وفي لحظة من قلب المشهد، جاء الرد القاسي:
“ارموا أنتم بدلاً عنهم!”
ثم كانت المفاجأة الأشدّ وجعًا: أولئك الذين رُفض دفنهم ظلمًا، رموا التراب على من أنقذهم، دون تردد، في سقوط أخلاقيٍ مدوٍ، يعكس طبيعة من لا دين له ولا ضمير، لا يعرف للوفاء طريقًا.
لكن، وقبل أن تُستكمل المهزلة، وقف قائدٌ من قوات الدعم السريع، بكامل هيبته ورباطة جأشه، وقال جملته الخالدة:
“أردنا فقط أن نُريكم من هم الكيزان… ناكرون للجميل، لا رحمة في قلوبهم، ولا صديق لهم في وقت الضيق.”
لم يكن هذا المشهد تمرينًا على الحقد، بل درسًا في الأخلاق. لم تسفك دماء، لم تُهدر كرامة. كان ذلك انتصارًا للقيم على الانتقام، وعلوًا للضمير فوق الغضب.
قوات الدعم السريع – وهي الطرف الأقوى في المشهد – لم ترتكب جريمة، ولم تنساق وراء شهوة البطش. بل وقفت عند حدود الدين، لا حدود الكراهية. تعاملت بأخلاق الجندية المؤمنة، لا بعنف المليشيا العمياء.
إنهم رجال يحملون القرآن في صدورهم قبل أن يحملوا السلاح، ويقاتلون من أجل العدل لا الخراب، من أجل كرامة الإنسان، لا إذلاله. فكانت الحفرة مرآةً كاشفة، لا مقبرة للعداوة.
ظهر فيها من يبيع الوفاء مقابل لحظة نجاة، ومن يصون القيم حتى في أحلك الظروف…
فإن هدنة الفاشر المؤقتة ليست سوى سيناريو جديد لتجديد دماء (الفلول)، وإعادة تموضع الإخوان. أما المواطن، فقد غادر المدينة بحثًا عن مأوى يقيه شر المكر والخذلان، كما فعلت استخبارات جيش (الفلول) من قبل، حين رفضت توزيع الإغاثات القادمة من الدول العربية لولايات شرق وجنوب دارفور، وتركَتها في المخازن حتى تلفت وانتهت صلاحيتها.
من قصف الأبرياء؟ من دمّر سوق الفاشر؟ من نهب البنوك وأحرق المحاصيل؟
أليسوا هم من لا يتورعون عن ارتكاب أي جريمة، ما دامت تؤجل سقوطهم المؤكد؟
أما قوات الدعم السريع، فهي تقاتل اليوم في سبيل دولة تُبنى على العدل، لا على الغلبة. دولة تُقيم وزنًا للإنسان قبل البُنيان. جندها لا يطلقون الرصاص فحسب، بل يفتحون طريقًا نحو وطن يحكمه الضمير، لا الطغاة.
إن هذا المشهد العظيم لا يُختزل في حفرة، بل يُخلّد في الوجدان.
لقد انتصرت الأخلاق يوم خُيّل للبعض أن البندقية تحسم كل شيء.
فإذا بالدعم السريع ترسم خطًا فاصلًا بين من يقاتل لأجل مشروع وطني، ومن يدفن من أنقذه، إن خلا قلبه من الوفاء.
وفي حفرة واحدة، تكشفت وجوه، وارتفعت رايات…وسيبقى هذا الدرس شاهدًا خالدًا..
قد ينتصر في الحرب من يملك السلاح، ولكن من يملك الأخلاق… هو من يكتب التاريخ.