مواقف ومشاهد
بقلم: عبد الله إسحق محمد نيل
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية يوم الاثنين حكمًا ضد علي محمد عبد الرحمن المعروف بـ علي كوشيب، أول قائد لميليشيا صنعتها استخبارات الجيش، والمتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب الدامية التي امتدت لما يقارب العشرين عامًا في إقليم دارفور بغرب السودان.
وقد وجّهت الدائرة الابتدائية بالمحكمة إلى كوشيب (31 تهمة) من بينها القتل، الاغتصاب، التعذيب، النهب، والمعاملة الوحشية، ارتكبها هو وآخرون في عدد من مناطق الإقليم.
وأكد ممثلو الادعاء أن المتهم كان قياديًا بارزًا في مليشيات الجنجويد، وشارك بحماسة في ارتكاب الجرائم الموجهة ضد مجموعات من قبائل الفور، بتوجيه مباشر من نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، وبإشراف عبد الرحيم محمد حسين وأحمد محمد هارون.
وسيُعلن عن مدة العقوبة في جلسة لاحقة بعد استكمال إجراءات المحكمة.
وُلد علي محمد عبد الرحمن الملقب بـ كوشيب عام 1957 في منطقة وادي صالح بولاية وسط دارفور، ونشأ في مدينة نيالا بجنوب دارفور، تحديدًا في حي يُعرف باسم الخرطوم بالليل.
في 27 أبريل 2007، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أمرًا بالقبض عليه بعد توجيه 50 تهمة إليه تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.
ظلّ كوشيب متواريًا عن الأنظار لسنوات، إلى أن فاجأ الجميع بعد سقوط نظام البشير عام 2019، حين سلّم نفسه طواعية للمحكمة الجنائية الدولية في عام 2020.
وجاء تسليم نفسه بعد أن ضاقت به دوائر النظام البائد وبعض المقربين منه. عبر كوشيب الحدود إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، ومنها نقلته مروحية تابعة للأمم المتحدة إلى العاصمة بانغي، ثم إلى لاهاي بهولندا حيث مقر المحكمة.
أُعيدت محاكمته على أساس 31 تهمة تتعلق بجرائم ارتكبها بين أغسطس 2003 وأبريل 2004 بتوجيه مباشر من وزير الدفاع آنذاك عبد الرحيم محمد حسين ووزير الدولة بالداخلية أحمد محمد هارون، إلى أن تمت إدانته في 27 تهمة منها.
وفي محاولة بائسة للتهرب من العدالة، فاجأ كوشيب المحكمة في الجلسة رقم (121) قائلاً:
“أنتم تحاكمون الشخص الخطأ، أنا لست علي محمد عبد الرحمن كوشيب.”
إلا أن المحكمة منحت الدفاع فرصة لإثبات النفي، واستدعت عددًا من رموز الإدارة الأهلية المقربين منه الذين أكدوا هويته الحقيقية، لتستمر المحكمة في إجراءاتها حتى صدور الحكم بالإدانة.
استقبلت أسر الضحايا ومعسكرات النازحين واللاجئين في دارفور وشرق تشاد الحكم بارتياحٍ كبير، واعتبرته انتصارًا للعدالة وإنصافًا لضحايا الحرب التي استمرت من عام 2003 إلى 2008.
ورحبت القوى المدنية ومنظمات المجتمع المدني وحكومة تأسيس للسلام والوحدة الانتقالية الفدرالية بالقرار، وطالبت بتسليم بقية المتهمين، وعلى رأسهم عمر البشير وعبد الرحيم محمد حسين وأحمد محمد هارون، إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمتهم.
في المقابل، التزمت حكومة بورتسودان – بمكوناتها المختلفة من حركات مسلحة كـ حركة تحرير السودان (مناوي) والعدل والمساواة (جبريل إبراهيم) وحركة مصطفى تمبور وحركة عبد الله يحيى وحركة رصاص – صمتًا مريبًا تجاه قرار الإدانة، ولم تُصدر أي بيان أو إشارة ترحيب بالحكم.
هذا الصمت المُذل والمُخِلّ، كشف بجلاء تواطؤ هذه الحركات وتستّرها على كبار المجرمين، وأكد أن شعاراتها السابقة حول “العدالة لضحايا دارفور” لم تكن سوى مزايدات سياسية.
إنّ إدانة كوشيب تضع الجميع أمام اختبار أخلاقي وتاريخي، وتُسقط ورقة التوت عن حركات الارتزاق السياسي التي ارتمت في أحضان السلطة الانقلابية.
وسيلقي بها التاريخ قريبًا في سلة المهملات، لأن العدالة لا تسقط بالتقادم، ودماء الأبرياء لا تُشترى بالمناصب ولا بالتحالفات الزائفة.



