
مع تجدد الحديث عن استئناف المفاوضات بين طرفي الحرب في السودان، تعود إلى الواجهة قضية تسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهي إحدى القضايا التي طالما طالبت بها جماهير الثورة السودانية، في إطار شعارها الأشهر: “حرية، سلام، وعدالة”. تلك الثورة التي اقتلعت نظام الإنقاذ، بعد ثلاثين عامًا من الحكم، تخللتها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وقمع ممنهج، وفساد واسع النطاق، وحروب أهلية حصدت أرواح الآلاف، لا سيما في إقليم دارفور.
نتيجة لتلك الجرائم، أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 1593 في مارس 2005، محيلاً الوضع في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية. ومنذ ذلك الحين، صدرت مذكرات توقيف بحق عدد من رموز النظام السابق، على رأسهم الرئيس المعزول عمر البشير ووزير داخليته الأسبق أحمد هارون، إضافة إلى آخرين من قيادات الحركة الإسلامية.
إفلات مستمر من العدالة
رغم مرور سنوات على تلك المذكرات، لم يتم تسليم أي من المطلوبين. بل إن الحرب المستمرة والانهيار المؤسسي في البلاد جعلا من تحقيق العدالة أمرًا أكثر تعقيدًا. وبينما تتضارب المعلومات حول أماكن وجود المطلوبين، تشير تقارير متعددة إلى وجود تواطؤ – صريح أو ضمني – من جهات داخل حكومة بورتسودان، تساهم في حمايتهم ومنع محاسبتهم.
ما بعد حرب ١٥ أبريل..
بعد سقوط النظام في أبريل 2019، تزايدت الآمال لدى السودانيين وأسر الضحايا بتحقيق العدالة، خاصة مع إعلان الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك التزامها بالتعاون مع المحكمة. إذ صرّح في أغسطس 2021 قائلاً:
“لا تسوية بدون عدالة، ولا عدالة بدون مثول من ارتكبوا الجرائم أمام المحكمة الجنائية الدولية”.
كذلك، أكدت وزيرة الخارجية آنذاك، مريم الصادق المهدي، أن الحكومة قررت تسليم المطلوبين، بهدف بناء سودان جديد قائم على العدالة. إلا أن تلك الوعود ذهبت أدراج الرياح، بسبب الخلافات بين المكونين المدني والعسكري، وتراجع المدنيين أمام نفوذ المؤسسة العسكرية، المختطفة آنذاك من قبل ضباط على صلة وثيقة بالحركة الإسلامية.
انقلاب وعودة النفوذ الإسلامي!
ازدادت الأمور تعقيدًا بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي أفضى إلى عودة الجيش إلى الحكم منفردًا، وأعاد رموز النظام السابق إلى المشهد من جديد، سواء بشكل مباشر أو عبر نفوذهم داخل مؤسسات الدولة. ثم جاءت حرب أبريل 2023 لتكشف مزيدًا من الحقائق؛ حيث ظهر أحمد هارون في تسجيل صوتي يؤكد خروجه من سجن كوبر خلال اشتباكات بين الجيش والدعم السريع، زاعمًا أنه ليس “فارًا من العدالة”، بل خرج “حفاظًا على حياته”. لكن اختفاؤه التام منذ ذلك الوقت يُفقد هذا الادعاء مصداقيته.
رغم إعلان السفارة الأمريكية عن مكافأة قدرها خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن مكان هارون، لا يزال طليقًا، ويُعتقد أنه يلعب دورًا محوريًا في إدارة الجناح المتشدد من حزب المؤتمر الوطني المحلول، ويصدر بيانات سياسية تدعو لاستمرار الحرب.
موقف المحكمة الجنائية والمجتمع الدولي..
في 16 يناير 2025، جدد المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، مطالبة السودان بتسليم المطلوبين الأربعة، مؤكدًا أن الأمر “ملزم قانونًا”، وكاشفًا عن استمرار جمع الأدلة لمذكرات توقيف جديدة. وفي 28 يناير، أعلن مندوب السودان لدى الأمم المتحدة نية بلاده تنفيذ عمليات التسليم “حال توفر إطار قانوني دائم”، ووقّع مذكرة تفاهم مع المحكمة لتسهيل ذلك.
لكن هذه التصريحات قوبلت بتشكيك واسع، خاصة في ظل غياب أي خطوات ملموسة، واستمرار التستر على المتهمين من قبل الحكومة الحالية في بورتسودان، التي تفتقر إلى الإرادة السياسية الحقيقية، بل يُعتقد أنها توفّر لهم الحماية. إذ أشار الباحث والصحفي مَمادو التجاني من أديس أبابا إلى أن الحرب والانقلاب الأخرين يمثلان محاولة صريحة لحماية المتهمين، الذين لا يزالون يمسكون بخيوط السلطة، إما مباشرة أو عبر شبكاتهم المتغلغلة في مفاصل الدولة.
من الفوضى إلى الإفلات ..
أكدت نائبة المدعي العام للمحكمة، نُزهت شميم خان، في كلمتها أمام مجلس الأمن في نيروبي بتاريخ 11 يوليو 2025، أن الجرائم مستمرة في دارفور، مشيرة إلى توفر “أدلة معقولة” على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل الجماعي، والاغتصاب، وقصف المستشفيات ومخيمات النازحين.
هذا التصعيد، الذي وصفه البعض بأنه ضغط متزايد على حكومة بورتسودان، لم يقابَل بخطوات حقيقية من جانب السلطات، ما جعل التساؤل عن “هروب الإسلاميين من العدالة” أكثر إلحاحًا. وأجاب عنه المستشار القانوني أبو فاضل العباسي بقوله:
العدالة أو اللا دولة
إن تجاهل مطلب العدالة – خاصة في ما يتعلق بتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية – يمثل تقويضًا مباشرًا لأسس بناء دولة القانون في السودان. استمرار الإفلات من العقاب، وسط انهيار مؤسسي، وحرب مدمّرة، يعني ببساطة أن السودان لا يسير نحو السلام ولا نحو الاستقرار، بل نحو تثبيت ثقافة الإفلات من المحاسبة، وهي البذرة الأولى للديكتاتورية والعنف المستقبلي.
وكما قالت المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا خلال زيارتها إلى الخرطوم عام 2021:
“العدالة تأخرت كثيرًا، ولكن يجب أن تأتي، ليس من أجل الماضي فقط، بل من أجل المستقبل أيضًا”.
ما بين الواقع والتوقعات ؤظل السؤال قائما هل سيفلت الإسلاميين المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية من العقاب ؟