
في لحظة إستثنائية من تاريخ السودان تتبدى الحاجة إلى قطيعة حقيقية مع أنماط التنظيم السياسي التي حكمت البلاد لعقود، قطيعة لا تستند فقط إلى نقد الماضي بل إلى الشجاعة في تخيل المستقبل وجرأة التأسيس، فالتنظيمات السياسية التي نشأت في كنف الأيديولوجيا الصلبة أو تشكلت من رحم البنى العشائرية الضيقة، لم تعد قادرة على التعبير عن طموحات هذا الجيل ولا على قيادة المرحلة القادمة نحو تحول ديمقراطي عادل وشامل.
لقد استُهلكت العبارات الكبرى وانكشفت عورات التنظيمات التي تتزين بقشرة الحداثة بينما تعيد إنتاج منطق الغنيمة، وتوزع الولاء السياسي على أساس الانتماء الجغرافي أو القبلي لا على أساس المشروع والرؤية ، التنظيم السياسي في السودان ظل لفترة طويلة حبيس توازنات اجتماعية موروثة ومشاريع فكرية مستوردة فانغلقت النخب على نفسها، وتخثرت الحياة الحزبية في تكلسات قديمة جعلت السياسة طاردة للعقل الناقد، وعاجزة عن احتواء التنوع الفعلي للمجتمع.
السودان الجديد بوصفه حلماً قيد التحقق لا يمكن أن يُبنى بأدوات الماضي ، لا الحزب المؤدلج قادر على مخاطبة مجتمع تعددي ومعقد، ولا التنظيم العشائري صالح لأن يكون وعاء للمواطنة ، إننا بحاجة إلى تنظيمات سياسية حديثة، تُبنى على قاعدة البرنامج لا الزعيم وعلى أساس الوعي لا الولاء، تنظيمات تستند إلى فكر مفتوح، وممارسة ديمقراطية حقيقية تبدأ من داخلها قبل أن تدعي تصديرها إلى المجتمع.
إن تجاوز العصبية العشائرية لا يعني إلغاء الهويات الاجتماعية بل تحريرها من استخدامها كأدوات سياسية، فالقبيلة يمكن أن تبقى كإطار اجتماعي وثقافي لكن التنظيم السياسي يجب أن يتأسس على وحدة الهدف لا وحدة الدم، وعلى التعاقد الوطني لا التراتب التقليدي هذا لا يتحقق إلا بإرادة واعية تضع حداً للتسويات التي تبني التحالفات على الوزن القبلي، وتنظر للمجتمع ككتل جامدة يمكن التلاعب بها لا كأفراد أحرار يملكون عقولاً وأصواتاً.
كما أن التخلي عن الأيديولوجيا لا يعني النفعية أو الضبابية الفكرية، بل الانفتاح على التنوع الفكري والسياسي وتجاوز الهويات المغلقة التي اختزلت السياسة في شعارات متحجرة ، فالتنظيمات الجديدة لا يُفترض أن تكون بلا رؤية بل برؤية قابلة للتفاوض، تقبل النقد، وتحتفي بالاختلاف، وتنطلق من واقع الناس لا من نصوص جامدة.
جيل السودان الجديد يحتاج إلى أدوات سياسية تعبر عنه، لا أن تقمعه تنظيمات تُعطي للمهمش صوتاً، وللمرأة موقعاً حقيقياً، وللشباب دوراً محورياً في صياغة المشروع الوطني ، هذا الجيل لن ينتظر تنظيمات قديمة تتصالح مع الواقع بعد أن تسببت في انهياره، بل سيبني أدواته بذاته ويفكك بها بنى الهيمنة والعجز السياسي.
إن بناء تنظيمات سياسية بلا عصبية عشائرية هو شرط من شروط الخروج من نفق التمزق الوطني، ومدخل أساسي لبناء دولة مدنية عادلة ، فالدولة الحديثة لا تُبنى على أعمدة الولاء الضيق بل على سياسات عامة تُدار بكفاءة وشفافية، وتنظيمات تتحدث لغة الناس وتُجيد الإصغاء، وتُحاسب حين تخطئ.
ليس أمامنا ترف الوقت ولا رفاهية التأجيل ، اللحظة تتطلب شجاعة التنظيم من الصفر، لا ترقيع الهياكل البالية إنها دعوة مفتوحة لعقول حرة وضمائر يقظة لتأسيس تنظيمات سياسية جديدة بفهم جديد لا تكرر الماضي ولا تتواطأ مع ملامحه، بل تمضي وعياً نحو مستقبل يستحقه السودانيون بعد كل هذا النزف والعناء.