
في المشهد السياسي السوداني تبرز إشكالية عميقة تتعلق بزج العشيرة والقبيلة في المعترك السياسي، حيث تتحول هذه البُنى الاجتماعية إلى أداة يختطف بها بعض الأفراد شرعية التمثيل ويفرضون أنفسهم وكلاء عن مجتمعات بأكملها، متجاوزين تعقيداتها وتنوعها لصالح مصالح ذاتية ضيقة.
هذه الأزمة لا تتعلق بوعي المجتمع فحسب، بل بقدرة النخب على توظيف الروابط الأولية وتحويلها إلى رصيد سياسي قابل للتداول، فيغدو المثقف القادم من الهامش عالقًا بين عبء العشيرة بوصفها سندًا اجتماعيًا وضاغطًا في آن، وبين طموحه للعبور إلى فضاء وطني أوسع.
ظل المزاج العام في السودان مرتبطًا بهذه الظاهرة ارتباطًا وثيقًا، إذ إن القبيلة تظل بالنسبة للكثيرين الملاذ الآمن في مواجهة الهشاشة السياسية والانقسامات. غير أنها حين تُستعمل كوسيلة للابتزاز السياسي أو كسُلَّم للارتقاء الفردي تفقد معناها الأصلي وتتحول إلى قيد يعطّل إمكانيات التغيير.
إن هذه اللحظة المفصلية في تاريخ السودان تحتاج إلى روافع جديدة لا تستند إلى ثقل العشيرة ولا إلى إرث الزعامات التقليدية، بل إلى الأفكار والبرامج والرؤى القادرة على إعادة تعريف السياسة باعتبارها خدمة عامة لا امتيازًا خاصًا. فالصراع الحقيقي اليوم هو صراع بين من يصر على إعادة إنتاج السلطة عبر واجهات اجتماعية مغلقة، وبين من يسعى إلى تأسيس مشروع جامع يتجاوز تلك القيود.
وهنا يتبدى الدور الحاسم للمثقف الذي يقف على تخوم الهامش، إذ يقع على عاتقه أن يوازن بين الانتماء المحلي والالتزام الوطني، وأن يتجاوز غواية التمثيل الشكلي ليبني شرعية تقوم على الوعي والمعرفة لا على القرابة والدم.
إننا أمام تحدٍّ كبير ونحن في طور التأسيس والبناء، حيث يتعين علينا أن نعيد تعريف الشرعية السياسية في السودان بوصفها نتاجًا لإرادة المجتمع، لا امتيازًا لشخص أو لعشيرة. فأزمة المجتمعات أن مَن يُنفِّذ باسمها كثيرًا ما يكونون أناسًا لا يعبرون عنها بصدق، بل يستغلونها لتحقيق مآربهم الذاتية فيصادرون صوتها ويضعونها في مواجهة لا تختارها.
لذا فإن المعركة القادمة ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي إعادة صياغة لعلاقة المجتمع بالدولة ولشرعية التمثيل نفسها، بما يفتح الباب أمام نهوض وطني يتجاوز حدود القبيلة ويؤسس لعقد اجتماعي جديد.