
تقرير سوما المغربي
السودان القديم انتهى وطويت صفحاته منذ يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣ بكل ما فيه، وجاءت تأسيس التي هي تراكم لمطالب ثورات متعاقبة فمن منظورٍ تاريخي يحاول استشراف مستقبل هذا الحراك وعقد مقارنة بين الثورة الشعبية الأخيرة التي شهدتها البلاد خلال العام الجاري والثورتين المشابهتين لها وكانتا وقعتا في عامي سبتمبر ٢٠١٣_ وديسمبر ٢٠١٨. ولم يتمكن قادة الثورتين السابقتين من تأسيس نظامٍ سياسي ديمقراطي مستقر، ويرى البعض أن الدرس الأهم الذي وصلت له حكومة تأسيس وميثاقها يكمن في التوافق على مدنية الحكومة، وأن النجاح في ذلك يبقى رهن عدّة أشياء على رأسها تجاوز الثنائيات المماثلة لثنائية المركز والهامش، وثنائية العلمانية والإسلام السياسي.
تناولت ضرورة معالجة أهم ثنائيتين في السياسة السودانية حتى ينجح الانتقال الديمقراطي، وتتمثل هاتين الثنائيتين في ثنائية المركز والهامش، وثنائية العلمانيين والإسلاميين.
_ فجوة بين المركز والهامش..
السبب الرئيسي في فشل الثورتين السابقتين ربما يكون هو انطلاقهما من المناطق النهرية الحضرية، ناهيك عن فشلهما في تجاوز الفجوة الواقعة بين المركز والمناطق المهمشة. واستمر نمط استغلال المركز للهامش بالتوازي مع الحروب الأهلية. ثم ثقل الثورة في المركز الحضري للسودان. ونظراً لعدم تمكّن اليساريين والليبراليين الموجودين في المدن من نقل الثورة إلى الهامش، فقد ضاعت تلك اللحظات ذات الإمكانات الاجتماعية الجديدة، حيث كانت الغلبة لصالح القوى المحافظة في السياسة السودانية. وعلى هذا النحو، تمكنت القوى المحافظة من تعبئة الهامش ضد خصومها في المدن.
*الهامش المتمرد بات أقرب بكثير إلى الوطن
حركة الثورة وانتقال السلطة اليوم، مقارنةً على الأقل بالثورتين السابقتين، هي في الواقع لصالح الهامش.
_شرارة البداية..
في سبتمبر ٢٠١٣ كان شرارة الثورات وكسر قيود الخوف والخنوع، وما بين ٢٠١٣ و٢٠٢٣ فإن كل الجيش الفلولي يواجه الشعب، ولقد جاءت الثورة في ٢٠١٣ بعد إعلان الحكومة رفع الدعم عن الوقود (البنزين والديزل) والسلع الأساسية، تنفيذًا لسياسات تقشف فرضها الوضع الاقتصادي المتدهور.، لقد أدى القرار إلى ارتفاع كبير في الأسعار، ما أشعل الغضب الشعبي خاصة وسط الشباب والطلاب. اشتعلت المظاهرات في العاصمة الخرطوم ومدينة ود مدني (ولاية الجزيرة)، ثم انتشرت إلى مدن أخرى.
رفعت شعارات ضد الغلاء، لكن سرعان ما تحولت إلى هتافات تطالب بإسقاط النظام، واجهت السلطات المتظاهرين بعنف مفرط، حيث أطلقت الرصاص الحي على المحتجين.
_ تفاصيل لا تمحى من ذاكرة التاريخ
بدأت هبة سبتمبر 2013م، وصلت كبري الفتيحاب بأمدرمان المؤدي إلى الخرطوم، والتي شارك فيها حوالي ألفي شخص، حيث وقعت هذه القصة في يوم الأربعاء 25 سبتمبر 2013م. يومها قتل أيضاً الشهيد هزاع عزالدين بمنطقة شمبات بالخرطوم بحري، بدأت التظاهرات الحاشدة والمرتبطة برفع الدعم عن أسعار المحروقات، والتي عرفت لاحقاً بـ(هبة سبتمبر)، في يوم الاثنين الثالث والعشرين من سبتمبر 2013م، في مدينة ود مدني وسط البلاد، وذلك بعد ساعات فقط من إعلان النظام البائد، رفع الدعم عن المحروقات، قبل أن تخرج تظاهرات كبيرة في يومي الثلاثاء والأربعاء التاليين بمدن العاصمة الخرطوم ومدن ولائية أخرى، لكن قوات الأمن استخدمت القوة المميتة تجاه المتظاهرين السلميين، ما أسفر عن سقوط ضحايا.
لقد خرج آلاف السودانيين بأنحاء البلاد المختلفة للمطالبة بإسقاط النظام، التظاهرات الأكبر كانت بولاية الخرطوم، غير أن قوات الأمن قمعتها بعنف غير مسبوق.
كانت المحصلة سقوط مئات الضحايا، بين قتلى وجرحى، كان نتيجة حتمية لسياسة الحكومة التي قابلت بها التظاهرات الاحتجاجية منذ اندلاعها وروايتها لتبرير العنف.
“الحكومة ستضرب بيد من حديد على المخربين للممتلكات العامة”، هذا التصريح أدلى به والي ولاية الخرطوم وقتها، عبدالرحمن الخضر، مساء الأربعاء الخامس والعشرين من سبتمبر 2013م، في خضم تظاهرات حاشدة شهدتها عدة مناطق بالعاصمة احتجاجاً على رفع الدعم عن أسعار المحروقات.
لم تمر أكثر من 24 ساعة على تصريح الخضر، الذي جرّم فيه التظاهرات السلمية وبرر فيه للقتل، حتى نسجّت على منواله، صحف موالية للنظام البائد، رواية مغايرة لما كان يحدث منذ أيام وقتها على أرض الواقع، من قمع دامٍ.، وعقب ذلك الأسبوع الدامي، والذي تناقلت حيثياته، وسائل الإعلام الدولية والمنظمات الحقوقية، حاولت السلطات، صنع رواية مغايرة لتبرير قتل المتظاهرين السلميين.
_ محصلة القمع والضحايا
قُتل أكثر من 200 شخص (تقديرات منظمات حقوقية)، معظمهم من الشباب والطلاب.
اعتُقل المئات وتعرض كثيرون للتعذيب.
عُرفت هذه الأحداث باسم “مجزرة سبتمبر” أيضًا بسبب حجم القمع الدموي.
يقول شاهد الذي شارك في التظاهرات، إنه في لحظة سقط ستة من المتظاهرين دفعة واحدة، ثلاثة على الأقل من بينهم سقطوا قتلى برصاص أطلق دفعة واحدة في الصدر وفي الرأس، بتأكيد من عدد كبير من المتظاهرين.
عدد القتلى وأماكن سقوطهم برصاص قوات الأمن وثقته منظمات عديدة وشهود عيان، من بينها منظمة العفو الدولية التي قالت في بيان وقتها “كان معدل العنف والقتل بحق المتظاهرين في سبتمبر غير مسبوق في العاصمة”.، ومثّلت هبة سبتمبر 2013م، واحدة من أقوى الاحتجاجات التي واجهت النظام البائد منذ انقلابه على الحكومة الديمقراطية في 30 يونيو 1989م، كما أنها كسرت هيبة السلطة ودفعت الشعب للمقاومة السلمية.
_ بداية النهاية
لم يشهد السودان “ثورة” بالمعنى الكامل في عام 2013، بل شهدت احتجاجات واسعة النطاق في سبتمبر اندلعت كرد فعل على رفع الحكومة الدعم عن الوقود، مما أسفر عن مقتل العشرات واعتقال المئات ورغم أن هذه الاحتجاجات لم تصل إلى مستوى الثورة الكاملة التي أطاحت بالنظام، إلا أنها مثلت بداية حركة احتجاجية استمرت وتطورت، وساهمت في خلق مناخ من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي مهد لاحقًا لاندلاع الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس عمر البشير في عام 2019.
أسباب الاحتجاجات:
رفع الدعم عن الوقود:
كان قرار الحكومة برفع الدعم عن الوقود هو الشرارة الرئيسية التي أشعلت الاحتجاجات، حيث أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار المواد البترولية وتكاليف المعيشة.
الأزمة الاقتصادية
تفاقمت الاحتجاجات في ظل أزمة اقتصادية يعاني منها السودان، خاصة بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 وفقدانه لثلثي إنتاج البلاد من النفط.
أحداث الاحتجاجات:
واجهت السلطات الاحتجاجات بالقمع العنيف باستخدام الغاز المسيل للدموع والقوة المفرطة، مما أدى إلى وقوع عشرات القتلى والجرحى.
تطور الاحتجاجات:
بدأت الاحتجاجات بعفوية ثم تحولت إلى حركة منظمة بشكل أكبر مع مشاركة ناشطين وقوى مدنية وتنظيمات مهنية، مثل تجمع المهنيين السودانيين.
مطالب شعبية:
طالب المحتجون بإسقاط النظام، وتحقيق العدالة للضحايا، واتهموا الحكومة بالمسؤولية عن الدمار والفساد.
أهمية أحداث 2013:
تعبئة الشارع:
ساهمت هذه الاحتجاجات في تعبئة الشارع السوداني وإبراز حجم الغضب الشعبي ضد نظام البشير.
تأسيس تنظيمات مدنية:
ساهمت الأحداث في ظهور وتفعيل دور تنظيمات مدنية ومهنية، مثل تجمع المهنيين السودانيين، التي شكلت لاحقًا جزءًا رئيسيًا من قيادة الثورة السودانية عام 2019
_ تم التمهيد لثورة 2019 ثم ٢٠٢٣:
تعتبر أحداث 2013 بمثابة مرحلة تمهيدية وحجر زاوية أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية، مما دفع الشعب السوداني إلى الانتفاضة في نهاية المطاف عام 2018-2019.
وكانت النتائج والتأثير انه حينها لم تسقط الحكومة، لكن الثورة كانت محطة مفصلية في تراكم الغضب الشعبي.ساهمت في توسيع دائرة المعارضة وكسر حاجز الخوف، واعتُبرت مقدمة مهمة أدت لاحقًا إلى الحراك الكبير في ديسمبر 2018 الذي أسقط البشير في أبريل 2019.
إذا كانت ثورة ديسمبر المجيدة هي أهم حدث في تاريخنا السياسي الحديث، فإن انتفاضة سبتمبر ٢٠١٣م، هي أهم معلم في الطريق إلى ديسمبر”. مضيفاً “الصدور العارية التي واجهت الرصاص، انتزعت أي شرعية كان يحتمي بها نظام البشير، لقد فضحت النظام المتأسلم وهشاشة قوته.. تشظى بعدها نظام المؤتمر الوطني وانقسم ولم يعد أبداً كما كان قبل سبتمبر”.
وحشية نظام البشير و(الإخوان المسلمين) مع الشباب الثائر كانت النار التي اتقدت بها ثورة ديسمبر المجيدة.. بين سبتمبر وديسمبر جرت الكثير من المواكب والاعتصامات وأشكال الاحتجاج والمقاومة المختلفة، حتى انبلج فجر ديسمبر ثم جاءت ١٥ أبريل التي أوصلت الشعب لحكم توافق عليه بميثاق التأسيس وسينتصر به وسيعم نوره ديمقراطية ودولة مدنية.