
يواجه السودان اليوم مرحلة تأسيسية حاسمة حيث تتشابك الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية مع واقع اجتماعي متأزم ، يجعل من القرارات التنفيذية للحكومة اختباراً مباشراً لقدرتها على حماية المواطنين وإعادة بناء الثقة في الدولة ، عقب أحداث 15 أبريل شهد المشهد الوطني تداعيات كبيرة على الاقتصاد ، إذ أفضى قرار تغيير العملة إلى ارتدادات واسعة واستغله بعض الأطراف لخلق ندرة متعمدة في السيولة النقدية ، عبر شراء الكتلة النقدية و تخزينها أو تحويلها خارج القنوات الرسمية ، ما عمق أزمة الكاش وأدى إلى ارتفاع الأسعار وتأثر القدرة الشرائية للأسر السودانية وهدد بانتشار السخط الشعبي.
تزداد تعقيدات الوضع الاقتصادي بسبب غياب البنية التحتية المصرفية والمؤسسات المالية في مناطق سيطرة حكومة السلام والوحدة ، حيث لا توجد بنوك أو مؤسسات اقتصادية قادرة على التعامل مع التدفقات النقدية أو إدارة الإيرادات المحلية ، هذا الواقع يجعل إجراءات استقرار النقد والسيولة أكثر تحدياً ويستدعي حلولاً مبتكرة يمكن تطبيقها حتى في ظل نقص البنية التحتية ، مثل الدفع الرقمي عبر الهواتف المحمولة ، إنشاء صناديق محلية للإيرادات ، وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص المحلي لتسيير التجارة والإنتاج.
في هذا السياق الحرِج يقف رئيس الوزراء محمد حسن التعايشي أمام مسؤولية اتخاذ قرارات عاجلة وحاسمة تبدأ بتشخيص شامل للوضع المالي والاقتصادي ، يحدد حجم النقد خارج المنظومة الرسمية ، مصادر الإيرادات الأساسية ، والفجوات التمويلية قصيرة ومتوسطة الأجل ، ويشكل تعيين وزير مالية كفؤ خطوة استراتيجية لا غنى عنها ، فهو المسؤول عن ضبط الإنفاق و تنفيذ السياسات المالية وإدارة الموارد بما يضمن استقرار معاش المواطنين ، إلى جانب إعادة الثقة في المؤسسات المالية أمام الشركاء المحليين والدوليين ، مع مراعاة خصوصية مناطق السيادة التي لا تتوافر فيها بنية مصرفية تقليدية.
ويأتي إنشاء صندوق الإيرادات المحلي كأداة شفافة لإدارة الموارد المالية و يضمن تجميع الإيرادات الحكومية في قناة واحدة واضحة ، وتخصيصها وفق أولويات وطنية محددة ، بما يشمل تمويل البرامج الإنتاجية وحماية الفئات الأكثر هشاشة ، إلى جانب ذلك يمثل إطلاق صندوق استثمارات وطني خطوة حيوية لتعزيز الإنتاجية ، دعم المشاريع الوطنية وتوليد فرص عمل جديدة كما يسهم التفكير في بدائل لصادرات السلع الاستراتيجية في تحقيق توازن الموارد وضمان تمويل مستدام للدولة ، بما يخفف من آثار ندرة البنية التحتية المصرفية.
وتظل إدارة النقد محوراً رئيسياً في معالجة أزمة السيولة إذ يفرض غياب الفروع البنكية في مناطق سيطرة حكومة التأسيس تحدياً إضافياً في توفير السيولة والتعامل مع التدفقات النقدية اليومية ، في هذا السياق يُعد إنشاء بنك مركزي وطني خطوة استراتيجية ، يُعهد إليه بوضع رؤية متكاملة لإصدار العملة الوطنية مع تصميم سياسات اقتصادية رشيدة لضبط التضخم وتنظيم التداول النقدي ، كما يجب تعيين طاقم اقتصادي متخصص ضمن البنك يشمل خبراء ماليين ومصرفيين ومحللين اقتصاديين ، لضمان صياغة أدوات نقدية مبتكرة و إدارة الاحتياطيات المالية ، ووضع آليات فعالة لضمان وصول النقد والخدمات المصرفية إلى المناطق التي لا توجد فيها بنية تحتية مصرفية ، يمكن لهذا البنك أن يكون قاعدة مركزية لإطلاق حلول مالية رقمية في الدفع الإلكتروني ، وصناديق نقدية مؤقتة بما يضمن استقرار المعاش اليومي للمواطنين ويعيد الثقة في النظام النقدي والاقتصادي الوطني.
وبجانب الإصلاحات المالية تبرز ضرورة عقد مؤتمر اقتصادي وطني يضم الحكومة ، القطاع الخاص ، المجتمع المدني والشركاء الدوليين لإطلاق خارطة طريق استثمارية واضحة تضمن تمويل المشاريع الإنتاجية وتعزيز الشراكات المحلية والإقليمية والدولية ، كما يشكل إنشاء موانئ جافة ومراكز لوجستية داخلية خطوة استراتيجية لدعم التجارة وتسهيل حركة البضائع بما يخفف الضغط على البنية التحتية التقليدية ويؤثر إيجابياً على أسعار السلع واستقرار الأسواق ، ويعزز القدرة على التحكم في سلاسل التوريد وتقليل الاختناقات التي تؤثر مباشرة على حياة المواطن.
إن حكومة التأسيس بقيادة التعايشي أمام اختبار حقيقي لقدرتها على تحويل خطاب التأسيس إلى إجراءات عملية تشمل تشخيص الوضع ، تعيين قيادة مالية كفؤة ، إنشاء صناديق الإيرادات والاستثمار ، إنشاء بنك مركزي مع طاقم اقتصادي متخصص ، تطبيق بدائل نقدية مبتكرة ، وتنظيم شراكات اقتصادية محلية ودولية كل هذه الخطوات تشكل خريطة طريق عملية للخروج من الأزمة الاقتصادية قبل أن يتحول نقص السيولة والسخط الشعبي إلى زلزال اجتماعي ، وتعيد بناء الثقة في الدولة وتضع السودان على طريق التأسيس الوطني الاقتصادي المستدام.
إن اللحظة الراهنة تمثل فرصة تاريخية لإثبات قدرة الحكومة على معالجة التحديات العميقة بطريقة منظمة وشجاعة ، وبناء أسس اقتصادية متينة تراعي مصالح المواطنين ، وتضمن استقرار المعاش ، النقد والاستثمار حتى في ظل غياب البنية التحتية المصرفية التقليدية ، وتضع البلاد على مسار حقيقي للتعافي والنمو قبل أن تتحول الأزمات المتراكمة إلى انفجار شامل يهدد كل المكتسبات الوطنية.