الرئيسيهجمعة حرازمقالات

جمعة حراز يكتب: جريمة الترحيل القسري… حين يعود وجه العنصرية في ثياب الوطنية!

في هذا المنعطف المظلم من تاريخ السودان، تطفو على السطح واحدة من أبشع الممارسات التي تشهد على سقوطٍ أخلاقيٍ وإنسانيٍ مريع، الترحيل القسري لمواطني جمهورية جنوب السودان من الأراضي السودانية. ما يحدث اليوم في بورتسودان ليس مجرد إجراءٍ إداري أو حالة استثنائية في ظل الحرب، بل هو فعل عنصري ممنهج يعيد إلى الأذهان أكثر الفصول ظلمة في تاريخ البلاد، حين كانت السلطة تُدار بعقلية التمييز العرقي والديني التي فجّرت الحروب ومزّقت الوطن.
إن طرد الأسر الجنوبية، وإجبارهم على مغادرة السودان تحت ذلّ الإهانة والتهديد، جريمة لا يمكن تبريرها بأي ذريعة سياسية أو قانونية. فهي تعبير واضح عن عودة الفكر الإقصائي الذي يرى في “الآخر المختلف” خطراً على هوية الوطن، لا ثراءً له. هذا الفعل ليس سوى امتدادٍ مباشر للعقيدة العسكرية والسياسية التي حكمت البلاد لعقود، وأنتجت الحروب والانقسامات، حتى انتهى بها الأمر إلى فصل الجنوب وضياع الوحدة.
ما يجري اليوم يفضح زيف الشعارات التي يرفعها من يحكمون بورتسودان، وهم يمارسون أبشع صور الإذلال ضد من عاشوا بيننا إخوةً في الأرض والمصير. أولئك الذين يتحدثون عن “حفظ كرامة السودان” هم أنفسهم من داسوا على كرامة إنسانه، واستباحوا حياته وحقوقه باسم الوطنية الكاذبة.
إن الترحيل القسري لا يعبّر عن دولة، بل عن عقلية مأزومة تخشى التنوّع وتتعامل مع الناس على أساس اللون والعرق والدين. والذين يشرعنون هذه الجريمة تحت غطاء القوانين العسكرية، لا يختلفون عن أنظمة الفصل العنصري التي لفظها التاريخ. فالوطن لا يُبنى بالإقصاء ولا بالإجبار، بل بالعدالة والمساواة واحترام إنسانية الجميع.
كم هو مؤلم أن يتحوّل السودان — الذي كان يوماً مأوى لكل مضطهد وملاذاً لكل جائع — إلى ساحة طردٍ وتمييزٍ ضد أبناء الجنوب الذين شاركونا اللقمة والدم والمحنة. إن هذه الجريمة لا تسيء إلى الجنوبيين وحدهم، بل تطعن روح السودان نفسه، وتشوّه ما تبقّى من ضميره الإنساني.
إن إعادة اللاجئين أو تنظيم إقامتهم لا تتم بالهراوات ولا بالإهانات، بل عبر اتفاقات تحترم الكرامة الإنسانية، وتُدار بعقل الدولة لا بنزعة الانتقام. أما ما نشهده اليوم فهو محاولة يائسة من سلطة مأزومة تبحث عن “عدو بديل” لتغطية فشلها السياسي والعسكري.
على المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية أن تتحمّل مسؤوليتها الأخلاقية والإنسانية في إدانة هذه الأفعال، وأن تتدخل فوراً لوقف هذا العبث الذي يُرتكب باسم السودان. فالسكوت عن العنصرية جريمة، والتغاضي عنها خيانة لقيم الإنسانية التي ننتمي إليها جميعاً.
إن مأساة الترحيل القسري ليست حدثاً عابراً، بل جرس إنذارٍ يذكّرنا أن المرض القديم ما زال يسري في جسد الدولة — مرض العنصرية والتسلط — وأن الشفاء لن يكون إلا ببناء وطن جديد، يقوم على المساواة والمواطنة والعدالة. وطن لا يُسأل فيه الإنسان عن لونه ولا دينه، بل عن عطائه وانتمائه للخير العام.
فليكن ما حدث وصمة في جبين كل من شارك فيه، ولتكن صرخةً في ضمير الأحرار:
السودان لا يُطهَّر بالدم، ولا يُبنى على الإقصاء… السودان يُبنى بالعدل، أو لا يكون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى