تقرير: أكتوبر ٢١ .. ملاحم من ثورة سبقت الربيع العربي بخمسين عام
تغنى لها وردي ومحمد الأمين وانشد لها كبار الشعراء ..
تقرير : سوما المغربي
كانت أكتوبر أول شرارة للثورات المدنية في القارة، سبقت “الربيع العربي” بخمسين عامًا، وأرست تقاليد النضال السلمي، وسَطّرت للعالم أن الشعوب إذا أرادت، فإنها تكتب مصيرها بيدها.
أكتوبر لم تكن حدثاً عابراً، بل كانت رؤية.. حلم تحقق، ثم غُيِّب، لكنه باقٍ في ضمير هذا الشعب، يُلهمه كلما حاول الاستبداد أن يُطل برأسه.
سلامٌ على أكتوبر، سلامٌ على الشهداء،
في حضن التاريخ، تضيء ثورة أكتوبر 1964 كشمس لا تغيب، معلنة ميلاد وعي جديد، وصرخة شعب سوداني قرر أن يُعيد تشكيل قدره. كانت لحظة أن قال الناس: “كفاية”، فاهتزّت أركان السلطة، وسقطت أقنعة القمع، وتقدّم الشارع بأقدامه العارية وبصوته العالي نحو فجر من الحرية.
_باسمك الأخضر يا أكتوبر
ارتفع الهتاف، وتفتّحت حناجر الشعب بأنشودة الوطن، تلك التي صاغها الشاعر الكبير جيلي عبد الرحمن وغنّاها وردي بصوت ثائر، جعل للأغنية جناحين من نار وضوء:
“باسمك الأخضر يا أكتوبر.. الأرض تغني، والحق يدوِّي”.
_ يا لهب الشعب الجبار
ومن ذا الذي ينسى؟
“يا لهب الشعب الجبّار”
التي كتبها محجوب شريف، فغدت نشيداً لحناجر الأحرار، وتحوّلت إلى روح ثائرة تُحرض الأجيال القادمة على الوقوف في وجه الطغيان، بوعي وشرف.
_ ثورية وأناشيد باقية
الجمهور كالفنان يعرفان أن الأغنية الوطنية “أصبح الصبح” التي صارت فينا نشيدا وطنيا غير معلن، ستكون أغنية الختام كما ينبغي لأي نشيد وطني، فإذا كنت في أي حفل لسودانيين أي حفل، وكان مغنيه الأستاذ محمد وردي، فسينتهي بـ”أصبح الصبح”:
أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق
وإذا الفجر جناحان يرفان عليك
وإذا الحزن الذي كحَّل هاتيك المآقي
والذي شد وثاقا لوثاق
والذي بعثرنا في كل واد
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي
وكان ميلاد الأغنية بعد نجاح ثورة أكتوبر، التي أنهت الديكتاتورية العسكرية الأولى التي أزاحت قيادة الجيش بها النظام الديمقراطي بعد عامين من قيامه بعد استقلال السودان في 1956. وكتب نص الأغنية الوطنية الشاعر محمد مفتاح الفيتوري.
أكتوبر ثورة اكتنفها الشعر ونال حظه بها النثر، وكانت الأغاني الوطنية. وبقائها في الوجدان السوداني شديد الدلالة على أنها كانت ثورة قيمة.
_ وفي ميادين الوعي، أنشد محمد الأمين من كلمات هاشم صديق:
“الملحمة”
التي صارت مرآةً للوجدان الشعبي، ولوحة بديعة يرسمها اللحن والكلمة، على جدران الذاكرة الوطنية. “الملحمة”، تلك القصيدة الثورية الخالدة التي كتبها هاشم صديق ولحّنها وأداها الفنان محمد الأمين، والتي ارتبطت بثورة أكتوبر 1964 وجعلت من الشعر والغناء سلاحًا للشعب في وجه الطغيان:
“في حكاياتنا المفرحة
يا أكتوبر
يا شهر الثورة والتحدي
مكتوبة فيك ملحمة
ما بتنمحي
ولا بتنعدي
من دمنا
من صبرنا
من لهفتنا
من خوفنا عليك
ومن حلمنا الجايي لسه..”
ويقول أيضًا في مقطع آخر:
“نحن جبناك يا أكتوبر
يا صدى صوت الغلابة
نحن من فجّرنا الثورة
نحن يا أكتوبر غنينا
حزننا، دمنا، وتعبنا”
هذه الملحمة لم تكن فقط أغنية، بل كانت صوت الشارع، لغة الجماهير، وذاكرة وطن يصر على كسر القيود. وقد عبّر الشاعر هاشم صديق لاحقًا عن قصيدته قائلاً:
“كتبتها وأنا مغمور بالحس الثوري.. كانت أكتوبر أمامي تمشي في الشوارع، في العيون، في المايكروفونات، وكنت فقط أكتب ما أراه وأسمعه من هدير الشعب.”
وخلّد محمد الأمين هذه الكلمات في لحنٍ جسّد الحلم والوجع في آن، وجعل من “الملحمة” رمزًا ثوريًا يتجاوز الزمان والمكان.
سلامٌ على كل حنجرة صدحت “حرية، سلام وعدالة” قبل أن تُكتب في الشعارات، وقبل أن تُرفع في المواكب. تلك الحناجر لم تكن تردد كلمات، بل كانت تُطلق وعيًا متراكمًا، وإرادة لا تُكسر.
إنها ثورة الشعب السوداني الجبار، ثورة الوعي المتجدد، التي لم تبدأ في ديسمبر أو أكتوبر فحسب، بل ترسّخت جذورها في كل لحظة نضال منذ عقود. ثورة لا تُقاس بتواريخ محددة، بل بمسار طويل من الصمود والتضحيات، من أجل وطن حر كريم، وسودان يستحقه أبناؤه.







