(…..) هكذا نجوت من الموت بعد اعتقال دام 41 يومًا.. كنا نأكل رغيفة واحدة بموية في اليوم!
تحوّل منزلي إلى مأوى للفارين وقام (…..) هؤلاء بالتبليغ عني
الجيش جعل صغار ضباطه مغيبين عن الحقائق ومنع الهواتف و(….) هكذا كشفت لهم المخبأ
الجوع حصد المعتقلين في السجون وإعدامات تتم لأبرياء يوميًا!
مواجهتي الساخنة حيدت أحد الضباط وغادر البلاد بعد خلع الكاكي
كان شاهدًا على مجزرة ثلاثة آلاف من الأشاوس في اليوم الأول من حرب أبريل بطيران الجيش، وهم عُزّل لا يحملون سلاحًا في معسكر كرري، كانوا يتأهبون للمغادرة إلى السعودية للمشاركة في “عاصفة الحزم”.
العشرات من الناجين تمكنوا من التسلل إلى منزله بالثورة، حيث مكثوا لديه لستة أيام متواصلة.
ضيفنا حكى تفاصيل حزينة عن عمليات تصفية كانت تجري يوميًا بأحد السجون بمدينة كرري بعد أن تم اعتقاله وأبناؤه، وعن الموت المجاني بالعشرات من السجناء جوعًا داخل السجن.
وأفصح في ذات الوقت عن أخطر المعلومات، إذ أكد أن ضباط الجيش ما دون رتبة العقيد كانوا مغيبين تمامًا عن الواقع العملياتي لأشهر، وكيف أن كبار الضباط كانوا يخدعونهم بادعاءات عن “سيطرة الجيش على الوضع” و”مقتل حميدتي” وغيرها من القصص الوهمية لرفع الروح المعنوية زورًا.
إنه العم محمد عثمان خميس الشهير بـ(حراز)، أحد الناجين من الموت المحقق، وشاهد على العصر منذ اليوم الأول للحرب.
العم حراز روى معلومات مثيرة تُذكر لأول مرة، عن كيف تمكن من مجابهة الضباط بالحجة، وكيف حيد أحدهم الذي غادر لاحقًا إلى مصر بعد أن اكتشف الزيف.
العم حراز مرحبًا بك في صحيفة الأواوس؟
مرحبًا بكم في منزلنا، وكم كنا متشوقين لتوثيق ما جرى في الحرب منذ أول طلقة وحتى اليوم.
أين كنت عند انطلاقة شرارة الحرب؟
كنت في منزلي بالثورة الحارة 23، على بضع أمتار من معسكرات كرري للدعم السريع. عندما بدأت الحرب كانت الهواتف المصدر الأول لمعرفة الحقيقة، وكانت هناك إرهاصات كثيرة.
ذهبت إلى الفور بعد التأكد إلى معسكر كرري، وكان ذلك في الساعة العاشرة صباحًا، وهناك وجدت العقيد أمبيلو. كنت أريد الذهاب إلى منزل القائد عن طريق شارع النيل عبر الإذاعة والسلاح الطبي.
عندما وصلت إلى بوابة الإذاعة، كانت المفارقة عجيبة؛ وجدت الأشاوس ومعهم قوة من الجيش أوقفوا عربتي وسألوني عن وجهتي. قلت لهم إنني ذاهب إلى منزل حميدتي، فنصحوني بالرجوع إلى المنزل لأن الأوضاع مضطربة، وقالوا إنهم يمكن أن يسمحوا لي بالعبور لكن سيتم إيقافي في السلاح الطبي، وإن قُدّر لي العبور فلن أستطيع العودة. كانت نصيحتهم صادقة.
رجعت بعربيتي مرة أخرى، وفي تلك اللحظة قامت طائرة “أبابيل” بقصف معسكر كرري الذي كان يضم نحو ستة آلاف من عناصر الدعم السريع في مرحلة التدريب الأخيرة للمغادرة. سمعنا دوي ثلاث دانات.
اتصلت بأحد المسؤولين في الحكومة من أهلنا وقلت له إنني سأصل إليه في المنزل. في طريقي التقيت العقيد موسى أمبيلو، وأخبرني أن القائد المسؤول عن المعسكر والمفوّض للقوة كان من المعارين من الجيش، وقد غادر بعدد من العربات ولم يعد — عرفنا لاحقًا أنه انضم إلى الجيش في السلاح الطبي.
ذهبت إلى أحد إخواننا المسؤولين ومكثت معه حتى صلاة الظهر. في ذلك الوقت انتشرت الأخبار على نطاق واسع، وكانت الانتصارات تتوالى في كل المعارك، فكان رأسنا مرفوعًا؛ ما من معركة دخلوها إلا وانتصروا.
عند عودتي عبر كبري الحلفايا على شارع الوادي، وجدت الأشاوس وأخبروني بسيطرتهم على أجزاء كبيرة من المنطقة، لكن شارع الوادي كان تحت سيطرة الجيش.
تجنبت الطريق وذهبت عبر كبري الشنقيطي متسللًا بالطرق الداخلية. أثناء مروري أسقط الأشاوس طائرة “أبابيل” أمامي على بعد أمتار، احترقت بما فيها من طاقم. وصلت المنزل عند الرابعة مساءً.
في تلك اللحظة توقعت أن يتوافد الناجون من معسكر كرري إلى منزلي، لأنه معروف لديهم وفي الطريق. بالفعل وصلتني أعداد كبيرة تقارب المئة شخص، كانوا في حالة صعبة، بعضهم يرتدي ملابس ممزقة وحفاة.
قمنا بإعداد برميلي عصير، وجهزت الأسرة إفطارًا جماعيًا لهم. بعد صلاة التراويح عقدت اجتماعًا مصغرًا، بدأنا بسؤالهم عما حدث، فقالوا إن عدد القتلى كبير، وإنهم كسروا سور المعسكر وتمكنوا من الهرب، بينما تُرك الجرحى ليُقتلوا لاحقًا.
قمت بترتيب أوضاعهم، ثلاثة فقط كانوا مصابين فتم إسعافهم. أما البقية، فقلت لهم من أراد أن يلتحق بأقرب معسكر فليفعل، ومن لم يرغب فليغادر إلى أهله.
قسمت عليهم نحو مليار جنيه، وفرّنا لهم ملابس وأحذية، ونصحتهم بعدم السير في مجموعات لتفادي الخطر.
في اليومين التاليين توافدت مجموعات أخرى، وأخبروني لاحقًا بأنه تم دفن جميع الشهداء في مقبرة جماعية داخل المعسكر — نحو ثلاثة آلاف شهيد.
تابعنا المعارك عبر الهاتف، والانتصارات كانت متواصلة. أكثر ما أزعجني كان ما يجري حول القيادة العامة حيث كان القائد، إذ كان إطلاق النار كثيفًا جدًا في شارع المطار.
ما موقف الأشاوس بعد مقتل إخوانهم؟
رغم حالتهم النفسية الصعبة، رفض أغلبهم العودة، وتسللوا عبر كبري شمبات ومناطق أخرى حتى بلغوا المعسكرات وشاركوا في تحرير عدد من المواقع الاستراتيجية.
قالوا إن المعسكر أغلق بالكامل، ولا أحد يستطيع الدخول أو الخروج، ومن بقي حيًا تمت تصفيته.
تابعنا الموقف حتى العيد. منذ بداية الحرب كانت هناك تسعون معركة انتصر فيها الدعم السريع. كنت قريبًا من مرمى النيران، وبعد ذلك قدت مبادرة مع الإخوة في الإدارة الأهلية لرفع الروح المعنوية.
خلال الحرب استدعيت ثلاث مرات من قبل هيئة العمليات بعد أن وُشي بي، وكنت دائمًا أقول لهم: “أنا مواطن، قريب من الدعم السريع، لكن لست عسكريًا ولا أحمل سلاحًا.”
كيف تم اعتقالك؟
في يوم 13 يوليو 2023، قاموا بمحاصرة الحي بالكامل بخمس عربات قتالية واثنتين صغيرتين. اقتحموا المنزل عند الحادية عشرة صباحًا.
دخل عليّ أحدهم وسألني: “أنت حراز؟” قلت: “نعم.”
صرخ في وجهي أن أجلس أرضًا، فقلت له: “ولماذا أجلس؟ من أنتم؟”
طلبت رؤية الضابط المسؤول، فجاءني ضابط برتبة نقيب وطلب مني الذهاب معه أنا وأولادي، وتركوا النساء.
أخذونا إلى معتقل بمنطقة الحضانة، ثم نُقلنا إلى معتقل آخر في وادي سيدنا لمدة أسبوع، ثم إلى السجن الحربي في سركاب حيث قضينا 41 يومًا.
كانت الشمس لا تُرى إلا من الشباك، كنا نأكل رغيفة واحدة في اليوم، ونشرب ماءً مملحًا. بعض السجناء لم يخرجوا إلى الساحة لثلاثة أشهر كاملة!
كنت أواجه المسؤولين كلما زاروا السجن، وكنت أقول لهم:
“اتقوا الله، هذه الوجبة ستقود الناس للموت جوعًا. من أُدين خذوه للدروة واقتلوه، أما الأبرياء فاتركوهم.”
كانوا يردون: “ما دخلك؟ أنت سجين مثلهم.”
فأقول: “أعرف مصيري، وعمري تجاوز السبعين، لا أخاف من شيء.”
بعد ثلاثة أشهر إلا ثلاثة أيام نادوا اسمي: “محمد عثمان حراز.”
قالوا لي: “لديك اثنان من الأبناء في الحراسة الأخرى.”
تم إطلاق سراحنا جميعًا، وكان أحد أبنائي قد أُفرج عنه سابقًا لأنه طالب حربي، والثاني في كلية كرري العسكرية. وللمصادفة أُفرج عن شاب آخر بالخطأ لأن اسمه جاء بين اسمي واسم ابني.




