سوما المغربي تكتب: نهاية الحركات جف الحبر وطويت الصفحات
في ربيع أبريل الذي اشتعلت فيه نيران الحرب، كانت الحركات المسلحة التي حملت البنادق سنواتٍ طوال تقف على حافة قرار، ولم يطل التردد كثيراً، ففي لحظةٍ بدت أشبه بمنعطفٍ بلا لافتة، مزّقت حركتا مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم ورقة الحياد، وألقتا بها في مهب الريح، ثم سارتا بخطى متعجلة نحو معسكر الجيش، كأنما تقودهما مغامرة أكثر مما يقودهما وعيٌ بمآلات الطريق.
كان القرار أشبه بالقفز من سفينة لم تغرق بعد، إلى سفينةٍ لا يعرف أحد عمق الشرخ في قاعها، ومنذ تلك اللحظة، بدأ الخيط الرفيع بين “السياسة” و”المقامرة” يختفي شيئاً فشيئاً.
هي مكاسب على الورق، وخسائر على الأرض، فلم تُثمر تلك الخطوة سوى عن مكاسب هشّة، أقرب إلى أوراق الخريف التي تتجمع تحت شجرة تحتضر، فالمقاعد التي نالتها الحركتان في بورتسودان لم تكن ثمرة وزن سياسي أو حضور شعبي، بل كانت بحسب وصف كثير من المراقبين، مجرد مقايضة بسيطة، هي إرسالٌ للمقاتلين مقابل بقاءٍ على كراسٍ فارغة من الدلالة.
وهكذا صار يُنظر إلى وجودهما هناك كتحصّلٍ على ربح سريع من دون رأس مال، أقرب إلى “ارتزاق سياسي” منه إلى مشاركة أصيلة في دولة تترنح.
ورغم أن الرجلين حليفان على الطريق، فهما غريبات في الاتجاه، فقد وقّعا على الصفحة ذاتها من دفتر الحرب، إلا أن دوافعهما لم تكن من السطر نفسه، فجبريل إبراهيم، ينتمي إلى المدرسة الإسلامية فكراً وروحاً وتنظيماً؛ لذلك بدا اصطفافه وكأنه رجوعٌ إلى ثوب قديم يعرف خيوطه جيداً، يمشي بين حسابات السياسة وحسابات الأيديولوجيا، وفي يده سبحةٌ من التحالفات القديمة.
أما مناوي، فقد جرّ قواته إلى أتونٍ مفتوح، كمن يلقي قبيلته في ألسنة لهب ظناً منه أنها نار موقدة للدفء لا للحريق، كان حاكماً لدارفور، ثم اختار طريقاً هدم ما تبقى من بنيانه السياسي، دخل الحرب كأنما يطلب من التاريخ إصلاح خطأ قديم، فخرج منها بخسارة جديدة، أفدح وأعمق.
واليوم، حين يُكتب المشهد السوداني بحبرٍ من تغيّراتٍ كبيرة، لا يظهر اسم الحركتين إلا على هامش الأخبار، لا مكان لهما في ترتيبات السلام المقبلة، ولا صوت مؤثر في رسم ملامح الغد، والخلل في أصل التقدير، فالحرب، في نهاية المطاف، ليست مجرد رصاص يُطلق؛ إنها امتحانٌ للقيم قبل البنادق، وللرؤية قبل السلاح، وقد أخطأت الحركتان تقدير المشهد.
خاضتا معركة لا أخلاقية، بلا قضية مركزية، وبلا حاضنة اجتماعية، فخسرتا الميدان، وخسرتا السياسة، وخسرتا قبل ذلك معنى وجودهما بوصفهما ممثلتين لوجع الهامش وتطلعات الناس.
إنه الواقع حين تُباع القضية، يعلن التاريخ انسحابه، ما حدث لم يكن مجرد انحرافٍ سياسي، بل شكل سقوطاً في ميزان المبادئ، تقف حركات مناوي وجبريل اليوم أمام مرآةٍ صافية، بصورة مشروخة، لونها باهت، وتاريخٌ يوشك أن يُطوى دون أن يترك أثراً.
سوما المغربي
نوفمبر ٢٠٢٥



