ما بين ديسمبر المصنوع وديسمبر التلقائي .. ذكرى ثورة اقتلعت الكيزان وتعذّر استنساخها
الولايات كانت جذوة الشرارة
تقرير: سوما المغربي
جاءت ثورة ديسمبر امتدادًا راسخًا للتقاليد الثورية في تاريخ الشعب السوداني، وتجسيدًا لما يمكن تسميته قانون الشعب الذي حكم نضالاته الطويلة ضد الأنظمة الاستعمارية والديكتاتورية. فقد ظل مسار المقاومة الشعبية يتراكم عبر موجات متعاقبة؛ تُخمد إحداها في موقع، لتشتعل أخرى في موقع مختلف، في دورة نضالية مستمرة لا تنكسر، حتى تبلغ ذروتها في ثورة أو انتفاضة شاملة تُطيح بالنظام القائم عندما تنضج شروط التغيير. هذا التراكم لم يكن حدثًا أو فعلًا معزولًا، بل نتاج وعي تاريخي تشكّل عبر عقود من الصراع مع القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حيث تتلاقى المعاناة اليومية مع الإرادة الجمعية، لتتحول إلى فعل ثوري منظم أو تلقائي، بحسب السياق واللحظة.
جذور تاريخية لمسار متصل
وقد تجلّى هذا النمط التاريخي في محطات مفصلية من تاريخ السودان الحديث، بدءًا من الثورة المهدية عام 1885 التي اتخذت شكل الكفاح المسلح ضد الحكم الاستعماري، مرورًا بثورة الاستقلال عام 1956، ثم ثورة أكتوبر 1964 التي أسقطت أول نظام عسكري عبر الحراك الجماهيري، وصولًا إلى انتفاضة مارس–أبريل 1985 التي جسّدت نموذج النضال السلمي الواسع، وأطاحت بالنظام عبر الإضراب السياسي العام والعصيان المدني.
أصبحت هذه الأدوات، وعلى رأسها العصيان المدني والإضراب السياسي، من التجارب الراسخة في الذاكرة الوطنية السودانية، وسلاحًا تلجأ إليه الجماهير كلما نضجت الشروط الموضوعية والذاتية للتغيير، في مواجهة أنظمة ديكتاتورية فاسدة مارست القمع، وصادرت الحقوق والحريات الأساسية، وأغرقت البلاد في الحروب والفقر والمجاعة والدمار، ونهبت ثرواتها، وفرّطت في أراضيها وسيادتها الوطنية.
ديسمبر شهر التحوّل
من هذا السياق التاريخي يكتسب شهر ديسمبر مكانته الخاصة؛ فهو لا يعود كل عام كتاريخ في الروزنامة، بل كرمز لتحوّل عميق في الوعي الجمعي السوداني، بوصفه الشهر الذي كسر قبضة الإسلامويين على السلطة، وأنهى ثلاثة عقود من الحكم الاستبدادي. ولقد مثّل ديسمبر 2018 لحظة فاصلة، التقت فيها المعاناة مع القناعة، والغضب مع التنظيم، فكان الانفجار الشعبي الذي غيّر مسار البلاد.
غير أن هذه الرمزية نفسها أصبحت هدفًا لمحاولات الاستنساخ والتوظيف السياسي، عبر ما يمكن وصفه بـ«ديسمبر المصنوع»، في مقابل «ديسمبر التلقائي» الذي وُلد من رحم الشارع.
ديسمبر المصنوع.. اختبار فشل التعبئة
في الثالث عشر من ديسمبر الجاري، جرت محاولات لحشد جماهيري داعم للجيش، قُدّم إعلاميًا باعتباره امتدادًا لروح ديسمبر الثورية، إلا أن المشهد الميداني جاء رثَّ المظهر، محدود التأثير؛ إذ لم يتجاوز عدد المشاركين أقل من ألف شخص، وفق تقديرات أوردتها قناتا العربية والحدث.
هذا الحضور الخجول لم يكن مجرد رقم ضئيل فحسب، بل مؤشرًا سياسيًا واجتماعيًا على ضعف الاستجابة الشعبية، وعلى الفجوة المتزايدة بين خطاب التعبئة الرسمي ومزاج الشارع. فقد أكد المشهد أن الحشد الموجَّه، مهما بلغت كثافة الترويج له، لا يستطيع خلق حالة ثورية، ولا استدعاء ذاكرة ديسمبر التي ارتبطت بالفعل التلقائي والاقتناع الجماهيري، لا بالتعبئة الفوقية أو الاصطفاف القسري.
ديسمبر التلقائي.. حين اشتعلت الولايات
في المقابل، ظل ديسمبر 2018 حاضرًا كنموذج مغاير تمامًا. فقد انطلقت شرارته من الولايات، متجاوزًا المركز، ومدفوعًا بتراكم اقتصادي واجتماعي وسياسي خانق. لم يكن الحراك في بداياته محكومًا بخطط مركزية، بل بتعبير عفوي عن الغضب الشعبي، سرعان ما تحوّل إلى فعل جماهيري واسع.
ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات واتساع رقعتها، بلغ الحراك ذروته في التاسع عشر من ديسمبر، في واحدة من أكبر التظاهرات الشعبية في تاريخ السودان الحديث، والتي مهّدت الطريق لإسقاط نظام الرئيس المعزول عمر البشير. لم يكن ذلك ديسمبر نتاج دعوة منظمة أو توجيه سياسي مباشر، بل نتيجة اقتناع واسع بأن استمرار النظام لم يعد ممكنًا، وأن التغيير بات ضرورة وجودية لا تحتمل التأجيل.
ديسمبر بقي في الذاكرة
يحتل ديسمبر مكانته الخاصة لأنه شكّل لحظة نادرة استطاع فيها الشعب السوداني، بإرادته المجردة، إسقاط نظام إسلاموي مترسخ في مفاصل الدولة منذ ثلاثين عامًا. كما أسّس لتحوّل عميق في الوعي السياسي، مفاده أن الشرعية تُكتسب من الشارع، لا من السلاح، ولا من الخطاب التعبوي، ولا من محاولات الالتفاف على الإرادة الشعبية. لقد أعاد ديسمبر تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، ورسّخ قناعة مفادها أن الجماهير، حين تبلغ حدّ اللامحتمل، تصبح قوة تغيير لا يمكن احتواؤها أو تزييفها.
عسكرة الحشد وتآكل الإحساس العام
كشفت التجارب اللاحقة أن الاعتماد على عسكرة السياسة، والتعبئة عبر حشد الكتائب، لا يخلق إجماعًا وطنيًا، بل يسهم في إضعاف الإحساس العام بالقضية، ويعمّق شعور الاغتراب لدى المواطن الذي أنهكته الحرب وتداعياتها الإنسانية والاقتصادية. فبدل أن تكون السياسة مجالًا للتعبير عن تطلعات الناس، تتحول إلى أداة ضغط تُفرغ الفعل الجماهيري من معناه.
الفاشر وعودة الصوت الشعبي
في هذا السياق، برزت تظاهرات مدينة الفاشر مؤخرًا كدلالة واضحة على أن الفعل الثوري لم ينطفئ، وأن مركزه لم يكن يومًا حكرًا على العاصمة. فقد خرجت جماهير المدينة لتؤكد أن الثورة ما زالت هدفًا شعبيًا حيًا، وأن مشروع تأسيس سودان جديد عبر حكومة مدنية تعبّر عن تطلعات المواطنين، يمثل خيارها السياسي في مواجهة واقع الحرب والانقسام والانهيار.
ما بين ديسمبرين!
ما بين ديسمبر الذي وُلد من رحم المعاناة الشعبية، وديسمبر الذي جرت محاولة صناعته سياسيًا، يتضح الفارق الجوهري بين الثورة كحالة وعي جماعي متراكمة، والحشد كأداة ظرفية بلا جذور. ويبقى ديسمبر، في الذاكرة السودانية، رمزًا لزمنٍ قرر فيه الشعب أن يقول كلمته، لا عبر الشعارات، بل عبر الفعل الحقيقي، فغيّر مسار التاريخ.



