الرئيسيهمقالات

كاربينو يكتب: صالح البيشي ورفاق الجراح حين يحرس المصابون ذاكرة الثورة ويصعد الأبطال إلى القيادة

في زمن تتكسر فيه المعايير الزائفة وتُختبر فيه إرادة الشعوب على نار الفقد والمحن، لا يمكن أن يُنتج التغيير الحقيقي إلا من عمق التجربة ومن سيرة الذين دفعوا ثمنه من أجسادهم ووعيهم ، وفي لحظة فارقة من مسيرة السودان ، يصعد صالح عيسى عبد الله إلى عضوية المجلس الرئاسي وحاكماً للإقليم الأوسط ، لا بصفته مجرد اسم جديد في قائمة السلطة ، بل بوصفه تعبيراً حياً عن تحول نوعي في فلسفة القيادة وإعادة تعريف الدولة عبر أبنائها الذين نزفوا من أجلها.*

 

*صالح البيشي ابن ولاية سنار ، ينتمي إلى قبيلة رفاعة ، لكنه منذ بواكير وعيه تجاوز حدود القبيلة نحو أفق وطني أرحب ، في الجامعة حيث بدأ مشواره السياسي ، لم يكن مجرد طالب عابر ، بل كان كادراً ثورياً فاعلاً ، واجه أنظمة القمع بالوعي والتنظيم ، وحمل قضايا المقهورين في خطاباته وسلوكه ، من هناك بدأت ملامح القائد الذي لا يرضى بالحياد ، ولا يخون الموقف ، ليواصل لاحقاً طريقه نحو ساحات المواجهة المباشرة ضمن صفوف قوات الدع_م الس_ريع، قائداً لمجموعة الشهيد البيشي – المجموعة 65 ، واحدة من أنبل المجموعات التي قاتلت بثبات في وجه الردة والاستبداد ، وقدمت رجالاً جسدوا معنى الفداء بلا ضجيج.*

 

*قبل أن يلتحق بالميدان العسكري كان صالح جزءً من الحركة الطلابية ، حيث اختبر معنى المقاومة وسط الحصار ، وتكون وعيه من داخل الأسئلة الكبرى حول العدالة والحرية وبناء الدولة ، لم يكن انخراطه في التغيير طارئً ، بل كان امتداداً طبيعياً لمشروع بدأ في حرم الجامعة ، واستمر في متاريس المواجهة ، وصولاً إلى مواقع اتخاذ القرار.*

 

*ليست هذه المسيرة مجرد سيرة شخصية بل هي وثيقة ناطقة باسم جيل كامل من الشباب السوداني الذين خاضوا معركة التغيير دون انتظار مقابل ، وبعضهم فقدوا أطرافهم دفاعاً عن الحلم الجماعي بوطن مختلف ، وصالح عيسى يمثل هؤلاء المصابين الذين لم يركنوا للخذلان ، بل أصبحوا شهوداً أحياء على أن الذاكرة الثورية لا تحفظها الكتب ، بل تحرسها الأجساد المجروحة والقلوب المشتعلة بالإيمان بالمستقبل.*

 

*صعوده من تخوم سنار إلى قلب المجلس الرئاسي يعيد تعريف العلاقة بين المركز والهامش ، فالهامش لم يعد مجرد موقع جغرافي ، بل صار حاملاً للرؤية الجديدة ، ومصدراً للشرعية الأخلاقية التي تفتقر إليها النخب القديمة ، وفي هذا الصعود لا يطلب أبناء الهامش اعترافاً بل يمنحونه.*

 

*اختيار صالح عيسى حاكماً للإقليم الأوسط يعكس إرادة سياسية جديدة لا تقيس الناس بانتماءاتهم الطبقية أو قربهم من دوائر السلطة ، بل بمدى أهليتهم النضالية ، وتجذرهم في واقع الناس ، وصدقهم في تمثيلهم ، إنه تكريس لمبدأ “الأهلية الثورية” كمعيار بديل عن المحاصصة والموازنات التي أهدرت فرص التغيير في السابق.*

 

*قيادته لمجموعة الشهيد البيشي لم تكن فعلاً عسكرياً محضاً بل كانت إعلاناً عن ولادة جيل جديد من القادة القادمين من خارج منظومات الصفوة التقليدية ، الذين رأوا في قوات الدع_م ال_سريع منصة جديدة لإعادة تعريف الانتماء الوطني ، وواجهة لمشروع السودان العادل الذي لا يستثني أحداً.*

 

*الإقليم الأوسط بما يمثله من ثقل سكاني وتنوع إثني وثقافي ، لم يكن يوماً ساحة محايدة في الصراع حول شكل الدولة السودانية ، واليوم حين يُعهد به إلى أحد أبنائه الحقيقيين ، يتجدد الأمل في أن تبدأ العلاقة بين الأرض والحكم من قاعدة الفهم العميق ، لا من قمة التجاهل والتسلط ، فابن الأرض أدرى بمداخلها ، وأصدق في خطابها ، وأقدر على مخاطبة ناسها بلغتهم وتجاربهم.*

 

*في هذا المشهد المتحول لا يبدو اختيار صالح البيشي حدثاً إدارياً عادياً بل هو لحظة سياسية مشبعة بالدلالة ، تشير إلى أن مشروع تأسيس لم يأتي ليعيد إنتاج القديم ، بل ليضع الرجال الحقيقيين في المواقع الحقيقية ، ويمنح السلطة معناها الأصلي خدمة القضية لا استثمارها.*

 

*إن المصابين أمثال صالح الذين حملوا ندوب الثورة في أجسادهم ، لم يعودوا على هامش المشهد بل أصبحوا في قلبه ، لأن الثورة الحقيقية لا تنسى أبناءها ولا تسمح بأن تكون تضحياتهم مجرد ذكريات هؤلاء هم حراس الذاكرة، وجسور العبور إلى المستقبل وشهود الحقيقة في زمن الالتباس.*

 

*هكذا تصنع الثورة أبناءها كما تصنعهم الجراح ، ويصعد الأبطال إلى القيادة لا وهم يحملون ألقاباً فارغة ، بل حين يصبحون تجسيداً حياً لقيم الإنسانية النبيلة والتضحية والعدالة.*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى