في مشهد يعكس بوضوح كيف تتشابك السلطة مع الامتياز والجغرافيا مع العنف، تأتي واقعة إزالة سوق المويلح لتكشف عن دور الجيش الإسلامي-النيليين في تجريف الهامش عبر أدوات العقاب الجماعي تحت غطاء رسمي لا يخفي انحيازه البنيوي. لم تكن الإزالة مجرد إجراء أمني أو تنظيم عمراني، بل فعلاً سياسياً محملاً برسائل واضحة من جيش لم يعد مجرد مؤسسة عسكرية، بل تحول إلى أداة حراسة لامتيازات كتلة اقتصادية واجتماعية متجذرة في مركز الدولة النيلي، تستمد شرعيتها من التاريخ وتحمي مصالحها بالسلاح.
سوق المويلح، الذي شكل مساحة اقتصادية نشأت بجهود ذاتية من أبناء دارفور وكردفان، لم يكن فقط مركزاً لتجارة المواشي، بل رمزاً لاختراق الهامش لجدار المركز وتحدياً صامتاً لبنية اقتصادية احتكارية طالما أقصت الأطراف. هذا السوق لم يكن محمياً بأي غطاء سياسي أو حزبي، بل كان تعبيراً نقياً عن المبادرة المجتمعية التي تنمو في الفراغ الذي تتركه الدولة المتقاعسة. وحين بدأ السوق يزدهر ويوفر فرصاً للآلاف من الفقراء والمهمشين، كان ذلك كافياً لأن يتحول إلى هدف في نظر نخبة تعتبر أي نمو خارج مظلتها تهديداً ضمنياً لهيمنتها.
إزالة السوق لم تتم عبر إجراءات مدنية ولم تُسبق بإشعارات أو ترتيبات بديلة، بل جرت كعمل عسكري صرف بقوة “عصابة الدولة” وبمنطق الفرض لا الحوار. هذا الفعل لا يُقرأ إلا في إطار استهداف الهوية الجمعية المرتبطة بالسوق، والتي تعود لمجتمعات الهامش الجغرافي والاقتصادي. فحين يُعاقب النشاط التجاري بسبب أصله وليس فعله، نكون إزاء منظومة ترى في وجود الآخر خطيئة تستحق الإزالة، لا مجرد اختلاف في اللون أو الجغرافيا.
الجيش في هذه الحالة لم يعد كياناً محايداً أو وطنياً بالمعنى التقليدي، بل يتجلى كـجيش الامتيازات، يُسخر موارده وقدرته على القمع لخدمة مشروع اقتصادي جغرافي محدد، يحتكر السلطة والثروة ويصوغ مفاهيم المواطنة على أساس الولاء للمركز. وما إزالة سوق المويلح إلا تطبيق عملي لهذا المفهوم، حيث يتم طرد الحضور الاقتصادي للهامش من العاصمة كما لو أنه تنظيف لساحة خاصة من ضيوف غير مرغوب فيهم.
هذا النمط من العنف الممنهج ليس طارئاً على شبه الدولة السودانية، لكنه الآن يأخذ شكلاً أكثر وقاحة وأقل تجميلاً. لم تعد هناك حاجة إلى خطابات وحدوية أو تبريرات تنموية؛ يكفي أن تنتمي لمجتمع يعتبره المركز مشوشاً أو مشبوهاً، حتى يُهدم رزقك ويُمحى وجودك ويُعاد تشكيل الفضاء العام بما يلائم خريطة الامتياز الطبقي والجهوي.
في ظل هذا الواقع، فإن إزالة سوق المويلح لا يمكن أن تُفهم إلا كرسالة صريحة: اقتصاد الهامش مهما كان نافعاً وسلمياً مرفوض في قلب الدولة ما لم يكن خاضعاً لمنطق الامتياز النيلي، وأن كل محاولة للعيش خارج شروط المركز ستُقابل بالعقاب لا بالمنافسة العادلة.
هكذا يتحول الجيش إلى ذراع ضاربة لطبقة لا ترى في السودان سوى امتداداً لحدودها، لا للوطن الذي يسع الجميع. وهكذا يُقمع السوق، لا لأنه خالف القانون، بل لأنه تحدى امتيازاً. وما لم تُكسر هذه المعادلة، فإن الخراب لن يطال الهامش وحده، بل سيأكل قلب الدولة نفسها، لأن الجدران حين تُبنى على الإقصاء لا تحمي أحداً في النهاية.



