تحديات على ذاكرة الوطن(31) السودان بين صمت المدافع وذاكرة السلام
- بقلم: عبدالعزيز ضاوي*
في المساء الذي يختلط فيه غبار الحرب بضوء الغروب، يختنق السودان بأنفاسه الأخيرة من صراعٍ طال أمده. تتوقف أصوات المدافع للحظةٍ، لكنها لا تمنح الناس سلامًا حقيقيًا، بل تذكّرهم بأن الصمت أحيانًا أشد وقعًا من القصف. في المدن التي خبت فيها الأضواء والقرى التي غابت عنها الطمأنينة، يعود السؤال الأعمق: هل يمكن أن تُعيد الهدنة المقترحة شيئًا من ملامح الوطن المرهق؟
فكرة هدنة جديدة تتداولها الأطراف السياسية والعسكرية اليوم كطوق نجاة، أو فرصة لإعادة ترتيب المشهد قبل أن يبتلع الانهيار ما تبقّى من الدولة. ومع ذلك، فإن هذه الهدنة، رغم ضرورتها، لا تعني بالضرورة السلام، بل تمثل اختبارًا لذاكرة وطنٍ أنهكته الانقسامات وأوجعته البنادق أكثر مما أنقذته.
في الميدان، تبدو قوات الدعم السريع في موقعٍ أقرب إلى التفوق العسكري، وإذا تم التوصل إلى الهدنة فستدخلها من موقع المنتصر. أما استمرار القتال حتى نهاية ديسمبر، فقد يُعيد رسم الخريطة مجددًا، إذ إن مناطق مثل بابنوسة، الدلنج، الأبيض، الرهد، أم روابة، العباسية، تندلتي والدويم مرشحة لأن تخلو من “الكاكي الأخضر”، ليحل محلها الكاكي الصحراوي البني إن فشلت التسوية.
وفي المقابل، تبدو قوات الدعم السريع أكثر التزامًا بالمواثيق الدولية الخاصة بالهدنة، بينما تواجه القوات المسلحة انقسامًا واضحًا في القرار داخل سلطة بورتسودان التي تمزقها تكتلات سياسية وعسكرية، تضاف إليها أصوات الإسلاميين والحركات المسلحة التي تعمل ضد أي اتفاق قد يقلّص نفوذها في المشهد القادم.
القتال خلال السنوات الماضية قضى على 35% من عناصر الجيش والإسلاميين و55% من الحركات المسلحة، وهي أرقامٌ كافية لتُظهر أن الحرب لم تترك منتصرًا واحدًا، بل وطنًا مثقلاً بالوجع.
المبادرات الإقليمية والدولية، من جدة إلى العواصم الأفريقية والعربية، تتعامل مع السودان كملف إنقاذ لا كدولة ذات سيادة كاملة. فالعالم يدرك أن استمرار الحرب يعني انهيار آخر مؤسسات الدولة. لكن الرهان الحقيقي ليس على الهدنة ذاتها، بل على تحويلها إلى مدخلٍ لحوارٍ وطني يعيد الثقة ويؤسس لمستقبلٍ مختلف.
السودانيون الذين خذلتهم الحروب والوعود لا ينتظرون معجزة، بل يريدون وقفًا للنزيف يمنحهم وقتًا لإعادة بناء حياتهم.
فهل تكون الهدنة المقترحة خطوة نحو الذاكرة الوطنية الجامعة؟
أم أنها محطة أخرى في طريقٍ طويلٍ من النسيان؟



