الرئيسيهمقالات

مناوي وجبريل: من أوهام السلطة إلى خذلان دارفور

كتب : محمد تاج الدين الحلو

منذ عام 2003 دخلت دارفور مرحلة مأساوية من تاريخها، دفع فيها الإنسان الدارفوري فاتورة باهظة من الدماء والنزوح والتشريد. ملايين وجدوا أنفسهم بين معسكرات النزوح في الداخل واللجوء في الخارج، بعد حرب شعواء رفعت فيها الحركات المسلحة شعار “إنهاء التهميش” و”رد المظالم”. كانت الآمال حينها كبيرة في أن هؤلاء القادة سيحملون قضايا الإقليم إلى قلب الدولة، لكن ما جرى بعد عقدين كشف العكس تمامًا.

مع اندلاع الثورة السودانية 2018، ارتفعت الشعارات الوطنية الجامعة: “كل البلد دارفور”. كان ذلك يعني أن قضية الإقليم صارت قضية وطن، وليست مجرد أزمة هامش. وعندما أُبرم اتفاق جوبا للسلام 2020، وُصف بأنه خطوة تاريخية يمكن أن تنهي المعاناة الطويلة. غير أن الاتفاق سرعان ما تحوّل إلى بوابة للسلطة، لا إلى مدخل للسلام.

مناوي تولى منصب حاكم إقليم دارفور، وجبريل إبراهيم أصبح وزيرًا للمالية، لكن نتائج التجربة كانت مخيبة: لا تنفيذ لبنود الترتيبات الأمنية، ولا إطلاق جاد للتنمية، ولا جبر للضرر. ما تحقق هو انتقال القيادات من صفوف المعارضين إلى كراسي الحكم، دون أن يتغير شيء في واقع النازحين والمشردين.

الأخطر كان انخراط مناوي وجبريل في لعبة السلطة عبر التحالف مع المكوّن العسكري ضد شركائهم المدنيين. لم يترددا في دعم انقلاب 25 أكتوبر 2021، الذي أعاد رموز النظام القديم إلى الواجهة، وأجهض مسار الانتقال الديمقراطي، وهو ما يعني خيانة واضحة لآمال الثورة وأحلام إنسان دارفور الذي ظن أن قياداته ستقف مع الحرية والسلام والعدالة.

لكن تلك المشاركة لم تمنحهم وزنًا حقيقيًا، إذ سرعان ما جرى تهميشهم من قبل المؤسسة العسكرية نفسها، ليتحوّلوا إلى أوراق ثانوية في معركة أكبر منهم.

بينما كان القادة يتنقلون بين الخرطوم وبورتسودان، كان إنسان دارفور يواجه الواقع المرير:

حرمان من التعليم حتى في امتحانات الشهادة السودانية.

حرمان من الأوراق الثبوتية والحقوق المدنية.

حرمان من الاتصالات والإنترنت.

قصف بالبراميل المتفجرة على الأسواق والقرى، كما حدث في سوق طرة حيث قُتل أكثر من 300 مدني بريء.
هذه الكوارث لم تجد صوتًا سياسيًا قويًا يواجهها أو يقف ضدها. الحاكم الذي كان يمكن أن يصبح رمزًا وطنيًا جامعًا، انشغل بخطابات متناقضة، مرة يتحدث عن المفاوضات، ومرة يتبنى خطابًا عدائيًا يعيد إنتاج الانقسامات القبلية، ومرة يظهر باكيًا أمام الأمم المتحدة.

بدلًا من أن يكون صوتًا للوحدة، سمح مناوي بخطاب الكراهية أن ينتشر، خطاب يستهدف مجموعات بعينها، ويزرع بذور الفتنة داخل المجتمع السوداني. هذا الخطاب لم يخدم دارفور، بل خدم أجندة صراعات عسكرية تبحث عن تأجيج الانقسام لإطالة الحرب.

جبريل من جانبه لم يكن أفضل حالًا، فقد غرق في دهاليز وزارة المالية، منشغلًا بالموازنات والسياسات التي لم يصل أثرها إلى الفقراء أو النازحين، تاركًا إنسان دارفور لمصيره.

النتيجة التي يمكن استخلاصها واضحة:

لم ينل مناوي وجبريل ما تمنياه من سلطة، إذ تقلصت أدوارهما إلى مجرد وجود شكلي في بورتسودان.

لم يجبروا ضرر أهلهم الذين ينتظرون العدالة والكرامة منذ عقدين.

لم يحققوا مشروع الهامش الذي رفعوا رايته طويلًا، بل تخلوا عنه عندما تعارض مع مصالحهم في السلطة.

كان يمكن لمناوي وجبريل أن يسجلا اسميهما في تاريخ السودان كقادة حقيقيين للهامش، لو قدما نموذجًا في التضحية من أجل شعبهم. لكنهما اختارا السلطة على حساب الإنسان، والكراسي على حساب المبدأ، فخسرا السلطة نفسها، وخسرا احترام أهلهم، وخسرا ثقة الشارع السوداني.

إن مستقبل السودان لن يُكتب بأقلام من خانوا أول امتحان أخلاقي لهم، بل سيصنعه من يضع الإنسان قبل الكرسي، والعدل قبل المكاسب، والوطن قبل القبيلة. ذلك هو الدرس المرّ من تجربة مناوي وجبريل.

تجربة مناوي وجبريل تصلح أن تكون درسًا بليغًا، ليس فقط لأهل دارفور، بل لكل السودان. وهي تضع أمامنا أسئلة مصيرية: ماذا بعد سقوط هذه النماذج؟ ومن يحمل مشروع دارفور في المستقبل؟

لا بد أن يفرز الواقع قيادات جديدة، نابعة من قلب معاناة الناس، تحمل مشروعًا وطنيًا جامعًا، وتضع جبر الضرر والعدالة الاجتماعية على رأس أولوياتها، بدلًا من الارتهان لصراعات العسكر أو السعي وراء كراسي شكلية.

لا يمكن الحديث عن مستقبل دارفور دون معالجة جذرية لقضايا النازحين واللاجئين، ورد الحقوق لأصحابها، وإطلاق برامج شاملة لإعادة الإعمار والتنمية. جبر الضرر ليس شعارًا سياسيًا بل استحقاق إنساني ووطني.

السودان الجديد لن يولد بخطابات تقسّم الناس وتطعن في أصولهم، بل بخطاب وطني جامع، يعترف بالتنوع كقوة لا كعبء. لا بد من محاسبة كل من يستخدم خطاب الكراهية كسلاح سياسي، لأنه يفتح الطريق لمزيد من الدماء والانقسام.

على المجتمع المدني السوداني أن يملأ الفراغ الذي تركته القيادات المتخاذلة، عبر تنظيم المبادرات، وحماية المجتمعات المحلية، وإطلاق صوت الضحايا. أما المجتمع الدولي، فعليه أن يدرك أن الحلول السطحية أو الصفقات مع قادة فاشلين لن تجلب سلامًا مستدامًا، بل تؤجل الانفجار القادم.

دارفور ليست قضية إقليمية معزولة، بل هي مرآة لأزمة السودان كله. وما لم تُبنَ قيادة وطنية جديدة تستوعب الدرس المرّ من فشل مناوي وجبريل، فإن دارفور ستظل تدور في ذات الحلقة الجهنمية من الدماء والخذلان.

إن إنسان دارفور يستحق أكثر من هذه النخب التي خذلته؛ يستحق قيادة صادقة، مشروعًا وطنيًا، وعدالة حقيقية، وسلامًا دائمًا. تلك هي المهمة القادمة، وهي امتحان سيحدد من يكتب مستقبله بمداد من الشرف، ومن يترك اسمه في سجل الخيانة والخذلان.

في الخاتمة لا يسعنا سوى القول إن مناوي لم ينل ما تمنى، ولا جبريل جبر كسر أهلنا في دارفور، وقد حان الوقت ليغيبوا عن مسرح السودان السياسي طوعًا قبل أن يُقتلعوا اقتلاعًا.

محمد تاج الدين الحلو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى